الثلاثاء، 6 فبراير 2018

نحو سياسات صناعيَّة فعَّالة

مدخل أول

"يعملون متى ما أعجبهم وبالطريقة الَّتي تعجبهم"
مالك مصنع فرنسي يصف العمال الألمان منتصف القرن التاسع عشر.

"لا يتقبلون الأفكار الجديدة "
رحَّالة بريطاني عن الألمان منتصف القرن التاسع عشر.

" أحسست أنّهم مسترخون جدًّا ولا يهتمون بالوقت، وحين تحدثت مع المديرين أخبروني أنَّه من المستحيل تغيير هذه العادات، فهي جزءٌ من الثقافة الوطنية"
مستشار إداري أسترالي تعليقًا على مصنع في اليابان عام 1915

"أعطوني انطباعًا أنهم كُسَالَى وغير مبالين بمرور الوقت"
المرسول الأمريكي إلى اليابان 1903

" 12 مليونًا من القذرين المنحطين العنيدين الأفظاظ الكُسَالَى المتسكعين يلبسون الملابس البيضاء القذرة ويعيشون في الوحل"
 تعليق عالمة الاجتماع البريطانية 1911-1912عن الكوريين

مقدمة 


أحدث التطور الصناعي خلال القرنين الماضيين تغييرات جذرية في حياة الإنسان، دفعت به نحو زيادة الإنتاجية والوفرة والاستقرار، فخلال هذه الحقبة خرج ملايين البشر من إطار الفقر، ونمت المجتمعات بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. فبنظرة تاريخية لعوامل التنمية الرئيسة في الدول المتقدمة نجد أن دور الصناعة في بريطانيا في القرن التاسع عشر والولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان في القرن العشرين هو الدور الرئيس لعملية التنمية والنهضة، ونجد الصناعة أيضًا في المحور الرئيس في تجارب نهضة كوريا والصين وإيرلندا في العقود الماضية. لذلك عد قطاع الصناعة أساسًا لصحّة الاقتصادات الوطنيّة.

قطاع الصناعة أم الخدمات؟ 


يمكن النظر إلى أهمية قطاع الصناعة مقارنة بالخدمات من عدة زوايا: 

أولاً: يعتمد قطاع الخدمات على استخدام سلع مصنّعة، فتجارة الجملة والتجزئة تعتمد على سلع تم تصنيعها، وقطاع العقارات يعتمد أساسًا على أصول ملموسة، وحتى قطاع الصحة نجد أن المعدات الطبية والأدوية تمثل جزء رئيسًا من تكاليفه. 

ثانيًا: رغم ما يثار عن انخفاض أثرها في الاقتصاد، تؤكد الإحصائيات استمرار الدور الحيوي للصناعة في الاقتصاد؛ فطبقا لدائرة التحليل الاقتصادية الأمريكية فإن كل دولار يدفع في نشاط صناعي يعود على الاقتصاد بما يزيد على 1.40 دولار، مقارنة بأقل من دولار لقطاع الخدمات. 

ثالثًا: تعتبر الصناعات وخاصة الصناعات المعتمدة على التصدير إحدى الأدوات التي تسهم في معالجة عجوزات التجارة الدولية والحسابات الجارية، والتي تعاني منها المملكة في أوقات انخفاض أسعار البترول فمقابل كل دولار تصدره السعودية من صادرات غير نفطية تستورد تقريبًا 3 دولارات، ومن الصعوبة بمكان استبدال السلع المصدرة بقطاع الخدمات؛لأن معظم التجارة الدولية تعتمد على تبادل السلع، فلكل دولار يصدر من قطاع الخدمات بما فيها البنوك والسياحة والعناية الصحية يقابله 4 دولارات في السلع المصدرة. 

 رابعًا: يمكن لقطاع الصناعة- وبالذات المرتكز على التصدير- استحداث مئات الآلاف من الوظائف ويكون حلاً نموذجيًا لمشكلة البطالة بينما نجد صعوبة لخلق مثل هذه الأعداد من الوظائف في قطاع الخدمات. 

خامسًا: في الدول المتقدمة الكبيرة (عدد سكان أكثر من 10 مليون) نجد أن محرك التنمية تاريخيًّا هو قطاع الصناعة، فقطاع الصناعة ينمو بوتيرة عالية إلى أن يصل حجم الناتج الإجمالي للصناعة إلى مستوى 30% من الناتج الوطني الإجمالي، ثم يليه تحول قطاع الخدمات كمحرك للنمو، وليس العكس. فنجد أن الصناعة وصلت لمستوى 30% في كوريا عام 2011م وفي إيرلندا 2002، وفي الصين عام 1980، وكذلك اليابان وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية في النصف الأول من القرن الماضي، وبريطانيا في القرن التاسع عشر، ثم تلاها نمو قطاع الخدمات ليكون محركًا للنمو الاقتصادي المنشود. 

 من هذه النقاط الخمس تنبع أهمية التركيز على الصناعة كأولوية في مسيرة التنمية السعودية. 

جهود الحكومة في الصناعة



لقد أدركت الحكومة السعودية أهمية الصناعة كمحور رئيس لنمو الاقتصاد السعودي منذ الخطة الخمسية الأولى؛ حيث تضمنت برامج لدعم صناعة البتروكيماويات والتعدين والصناعات التحويلية، وتوالت الخطط الخمسية في دعم الصناعة حتى تجاوز عدد المصانع في السنوات الأخيرة 6519 مصنعا بتمويل قدره 838 مليارريال سعودي ، وتسهم في الناتج الصناعي بما مقداره حوالي 2500 دولار للفرد. وعلى الرغم من حجم الإنجاز المحقق إلَّا أنه لا يزال دون متوسط الدول الغنية من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والذي يصل إلى 4900 دولار للفرد، ومن هنا تتضح حاجة المملكة إلى سياسات صناعية جديدة لمضاعفة الناتج الصناعي للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة. وبنظرة للسياسات الصناعية السابقة - خاصة ما قبل بترو رابغ، ومبادرة وزارة البترول لتحفيز تنوع المنتجات المصنعة - نجد أنها اقتصرت خلال العقود الماضية على توفير مواقع صناعية بأسعار رمزية، وسهولة استقدام الأيدي العاملة منخفضة الكلفة، ودعم الطاقة ، ودعم أسعار القيم للصناعات البتروكيمائية. ويؤخذ على هذه السياسات عدم استدامتها وضعف كفاءة استخدام الطاقة، ضعف تأهيل السعوديين في قطاع الصناعة، إضافة إلى تشجيع صناعات طفيلية غير مناسبة للمملكة لم تستمر إلا بسبب الدعم. 

 خلال السنوات القليلة الماضية اعتمدت وزارة البترول والثروة المعدنية مبادرة إستراتيجية لرفع الطاقة الاستيعابية المحلية لتكرير البترول بما في ذلك إنشاء مجمعات للبتروكيمكال مع مصافي النفط. أعتقد أن هذا التوجه عمل وطني عظيم يمكن من رفع القيمة المضافة للبترول. لكن يمكن النظر إلى ما تم إنجازه في صناعات البتروكيمكال وتكرير البترول إلى أنها "أهداف سهلة" ونقصد بالسهولة أن المواد الخام متوفرة محليا ودورة تطوير المنتج بطيئة فالتغيير في التقنيات والمنتجات ضعيف نسبيا مقارنة بالسيارات او المنتجات الإلكترونية، والمنتجات "سلع" يسهل بيعها نسبيًّا مقارنة بمنتجات أخرى. فمن غير المتوقع استخدام نفس الأساليب التي نجحت في تلك الصناعات لتطوير صناعات جديدة في المملكة وتحقيق نفس النجاح. 
 كما تم خلال السنوات الماضية تشجيع توطين المحتوى المحلي، عبر مبادرة رائعة من وزارة الدفاع لرفع المشتريات الداخلية بمشاركة شركة أرامكو وشركة الكهرباء والمؤسسة العامة لتحلية المياة بشكل رئيس. تهدف هذه المبادرة إلى عرض القطع المشتراة من الخارج والتي يمكن تصنيعها محليًّا.

من هنا أعتقد أننا بحاجة لتطوير السياسات الصناعية لتشجيع القطاع الخاص لتطوير الصناعة السعودية لتكون أداتنا الرئيسة لرفع إنتاجية السعوديين وحل مشكلة البطالة وتجاوز مرحلة الاعتماد على النفط والانفاق الحكومي لتحقيق التنمية. 


الصناعة ورؤية 2030


تناولت وثيقة رؤية 2030 أهمية الصناعة في عدة محاور، فحددت الرؤية أنها ستسعى إلى خلــق فــرص توظيــف مناسبة للمواطنين في جميـع أنحـاء المملكـة عـن طريـق دعـم ريادة الأعمــال وبرامــج الخصخصــة والاستثمار في الصناعات الجديدة وركزت الرؤية على دعم تصدير المنتجات السعودية إلى الخارج عبر تقديم " كل دعم ممكن للصناعات الوطنية لتمكينها من تسويق خدماتها في الخارج لتصل نسبة الصادرات السعودية من 16% إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي للقطاع غير النفطي؛ أي ثلاثة أضعاف الوضع الحالي، وكما تضمنت الرؤية إبرام اتفاقيات لتصدير منتجاتها"، كما نصَّت الرؤية على "توطين ما يزيد عن 50% من الإنفاق العسكري بحلول 2030"، واستهدفت الرؤية أيضًا "استغلال الموارد المعدنية و بناء صناعة الطاقة المتجددة".

كما تناول برنامج التحول الوطني 2020 جانب الصناعة ضمن عدة أهداف إستراتيجة، فوزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية حددت هدفها الإستراتيجي الأول زيادة صادرات السلع غير النفطية، ومؤشر الأداء هو رفع قيمة الصادرات من السلع غير النفطية من 185 مليار ريال إلى 330 مليار ريال في 2020، والهدف الإستراتيجي السادس " تحفيز القطاع الخاص لتصنيع السلع وتوفير الخدمات محليًّا وتشجيع القطاعين العام والخاص للاعتماد على المنتجات والخدمات المحلية" الهدف الإستراتيجي الرابع عشر نمو القطاعات الإستراتيجية في قطاع الصناعة وذلك بالتعاون مع كافة أصحاب المصلحة الرئيسيين" ولم يحدد الهدف الإستراتيجي من القطاعات الإستراتيجية إلّا صناعة الأدوية. 


المدارس الاقتصادية في تطور الصناعة

من الناحية التاريخية، برز في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية اتجاهان رئيسان في سياسات التصنيع، الأول هو الاتجاه البنيوي، ويستمد أفكاره من المدرستين الكينزية والاشتراكية، ويرتكز على الحمائية والاستثمار الحكومي في الصناعات الثقيلة، والاتجاه الثاني هو "إجماع واشنطن"، ويستمد أفكاره من المدرسة الليبرالية الجديدة، ويرتكز على الاعتماد على الأسواق لتوزيع الموارد وانضباط الميزانيات الحكومية، وفتح الأسواق أمام التجارة الخارجية، إلا أن كلا الاتجاهين فشلا في إحداث نمو مستدام، فتولدت قناعة بأنَّ نجاح دعم الصناعة يجب أن يرتكز في الأساس على تطبيق أفضل الممارسات بدلًا من اتباع منهج أو اتجاه محدد لتحقيق النمو في القطاع الصناعي. في الفقرات التالية سنستعرض مجموعة من المفاهيم المهمة في السياسات الصناعية، ثم مقترحات لأهداف السياسات الصناعية، ويليها الخاتمة. 

مفاهيم في السياسات الصناعية

1- الميزة النسبية 

تطرح قضية الميزة النسبية كإحدى الحجج للتركيز على صناعات معينة في المملكة، وتصاغ عادة بأن الميزة النسبية للمملكة هي في المواد الخام المتوفرة وهي النفط والغاز- إضافة للمعادن في السنوات الأخيرة- وأنه ينبغي التركيز على تلك الصناعات. ولأهمية الموضوع وضرورته سنسهب في تعريف ماهي الميزة التنافسية وكيفية بنائها. الميزة التنافسية النسبية: هي الظروف التي تتيح للدولة إنتاج منتجات بتكلفة أقل، أو تتيح تقديم منتجات ذات قيمة أعلى لدى المستهلك (وكمثال منتج من سابك أعلى قيمة لدى المستهلك السعودي من المنتج الصيني بغض النظر عن السعر).
فالميزة التنافسية تنتج إما من خفض السعر عبر: 1- انخفاض تكلفة الأيدي العاملة 2- أو إنتاج كميات كبيرة من المنتج (اقتصاد الكمية) 3- ارتفاع كفاءة الأنظمة الداخلية للشركات 4- تكلفة إقامة وتشغيل المصانع.
إضافة إلى خفض السعر، تنتج الميزة التنافسية عبر تقديم منتجات ذات مواصفات متميزة تجعل العميل يدفع سعرًا أعلى، وغالبًا ما تكون هذه المواصفات مرتكزة على: 1- تكنولوجيا متقدمة 2- ابتكارات او منتجات محمية ببراءات اختراع 3- أيدي عاملة متفوقة 4- علامات تجارية متميزة. ما يغفله النقاش هو أن الميزة التنافسية ليست شيئًا ثابتًا تمتلكه، بل أقرب لكونه بيئة متكاملة يجب العمل على بنائها وتطويرها، وللاستدلال على ذلك يمكن مراجعة التقدم الذي حصل في كوريا الجنوبية خلال العقود الماضية ومتابعة كيف تغيرت الميزة التنافسية النسبية خلال تلك السنوات، ففي العام 1970 كانت معظم صادرات كوريا الجنوبية من الصناعة هي المنسوجات والمواد الأولية والزراعية، ولو رغبت كوريا في التركيز على ميزتها التنافسية لحاولت التركيز على تطوير وزيادة إنتاجها من المنسوجات والمنتجات الزراعية وزيادة كفاءتها وربَّما عد ذلك إنجازًا قياسًا بواقعها.



 إلَّا أن التاريخ يذكر قصة نجاح مختلفة فقد عملت كوريا الجنوبية على تطوير مزايا تنافسية في صناعات مختلفة أدت إلى أن تكون إحدى علامات النجاح الصناعي في التاريخ، فنجد أن مزاياها التنافسية الحالية مختلفة. فهي اليوم إحدى الدول المتقدمة في صناعات الرقائق الالكترونية وصناعة السيارات، بل وحتى تكرير النفط رغم أنها بالكاد تنتج نفطًا.



ما أودُّ ذكره هنا أن إغفال الميزة التنافسية خطأ، لكن الافتراض أنها ثابتة خطأ أكبر، فالميزة التنافسية قابلة للتطوير إذا تم بناء السياسات الصحيحة والدافعة لتطور تلك الصناعات. إضافة إلى ما ذكرنا من أن الميزة النسبية غير ثابتة، فإنّ هناك خطرًا آخر في التركيز على المواد الخام أو الأساسية كميزة للمنافسة عالميًّا، حيث يتضمن ذلك افتراض كفايتها لوحدها للمنافسة عالميًّا، قد تكون المواد الخام مهمة لكن قد يتسبب ذلك في القناعة بكفايتها، مما يحرم من بناء مزايا تنافسية أخرى كبناء شبكات الموردين المحلية لتقليل الكلفة، ودعم الصناعات المتقدمة بالأبحاث. 


2- الصناعة بين المحاكاة والابتكار

 يدور الحديث في الصحافة السعودية حول أن الأبحاث والتطوير والابتكار هي إحدى أسس التقدم والنهضة، ومع إيماني التام في أهمية الأبحاث للتقدم الصناعي إلّا أنّني أؤكد على الفهم العميق لدور الأبحاث في التنمية حتى نستثمر فيها بكفاءة. لم يحدث أن انتقلت أي دولة من التخلف إلى التقدم بسبب أبحاثها، ما يحدث هو أن الدول النامية "تحاكي" تقنيات الدول المتقدمة، حتى تصل إلى مستواها في الإنتاجية، ثم تستثمر في الأبحاث حتى تتفوق عليها، ولنفترض أن السعودية لديها قصب السبق في أبحاث تحلية مياه البحر، ولنفترض أن أحد الباحثين توصل إلى آلية لتقليل كلفة التحلية بشكل جذري، فالباحث بالنهاية سيصنعها في الخارج نظرًا إما لعدم وجود أي مصانع لمعدات تحلية المياه أو أنها غير متقدمة بدرجة كافية لاستثمار هذا الاختراع، ويمكن الاستشهاد بتجربة كوريا حيث إنّها عملت على بناء قدراتها عبر المحاكاة، ولم تركز في الاستثمار على الأبحاث إلا بعد أن وصلت إلى مراحل متقدمة من التصنيع، فنجد أن ارتفاع الإنفاق على الأبحاث حديث نسبيًّا، ففي العام 2000م كانت ميزانية الإنفاق على الأبحاث 13 مليار دولار سنويًّا بينما في عام 2013م ارتفع الإنفاق إلى 60 مليار دولار سنويًّا، أي بعد اللحاق بالدول المتقدمة. من هنا تبرز أهمية تشجيع المصانع على محاكاة المصانع المتقدمة سواء تقنيًّا أو إداريًّا، فالمحاكاة للمصانع الخارجية هي "ابتكار محلي" لما فيه من نقل لمعرفة ورفع لجودة أو تقليل لتكلفة. وهذه المحاكاة منهجية مهمّة للحاق بالمصانع المتقدمة. 

 3- الصناعة من القاع إلى القمة أو العكس 


التسلسل الطبيعي لتطور الدول صناعيًّا أنها تبدأ بصناعات يدوية أو صناعات ذات تقنية بسيطة، ومع نمو الطلب على المنتجات فإن المستثمرين يبادرون إلى استكشاف صناعات جديدة، ويبادرون إلى تطوير منتجاتهم بإضافة تقنيات جديدة ذات إنتاجية أعلى، إضافة إلى تحسين الإدارة وتدريب موظفيها إلى أن تصل بعض المصانع إلى إنتاجية عالية تمكن من المنافسة عالميًّا، وإذا صح التعبير فإنَّنا سنطلق عليها الصناعة من القاع إلى القمة، ويتميز هذا التطور بكون القدرات الصناعية تتطور بشكل أفقي (عدد المنتجات)، وعمودي (جودة الإنتاج) بكلفة منخفضة نسبيًّا. وفي المقابل يمكن بناء قدرات صناعية عالية بتشجيع الشركات العالمية لفتح مصانعها بالسعودية وتدريب العاملين على الصناعات المتطورة، ومن ثم حث الموردين على فتح مصانع بالمملكة أو تطوير قدرات المصانع المحلية لتلبية طلب تلك المصانع المتقدمة، وسنطلق عليها الصناعة من القمة إلى القاع، يعيب هذا النوع من الصناعة كلفته العالية وأنها تخلق جزرًا متطورةً محاطةً بصناعاتٍ بسيطة مما يصعب معها الاستفادة منها كجزء من شبكة الإمداد، ويمكن النظر إلى سابك أو مصانع المؤسسة العامة للصناعات الحربية كأمثلة. أعتقد بأننا يجب أن نستخدم المنهجيتين لتشجيع التطور الصناعي لكن يجب التركيز بشكل أكبر على تشجيع الصناعة من القاع إلى القمة لكونها أقل كلفة في جانب استكشاف الصناعات القابلة للنجاح محليًّا، ويمكنها توفير ملايين الوظائف على المدى الطويل. 

4- شبكات الإمداد المحلية 


يمكن تأسيس شركة محاسبة أو عيادة أسنان أو حتى سلسلة مطاعم بعدد بسيط من الموردين، يتم توفير المواد الأولية من قبلهم، إلا أنه لا يمكن التعامل مع الصناعة بتلك الطريقة، فشبكة الموردين تشمل العشرات والمئات من الشركات الموردة للمواد الأولية. فمثلًا تعتمد شركة أبل على 766 مورد لإنتاج جهاز الهاتف المحمول آيفون، وبالمثل حين ننظر إلى صناعة السيارات نجد أن ما يقارب من 82% من القطع المستخدمة في السيارات تصنع من قبل الموردين، وليس من قبل شركات السيارات، ويمكن تعميم هذا النموذج على عمليات التصنيع بالإجمال.
 سلاسل الإمداد تفسر الجزء الرئيس من فكرة الميزة التنافسية، فسلاسل الإمداد المحلية تخفض كلفة الإنتاج، وتقلل من رأس المال العامل وتوفر المرونة في الإنتاج وتيسر الابتكار. فيجب التيقض لإشكالية ضعف سلاسل الإمداد، ودعم إنشائها، خاصة في القطاعات التي نستهدف تطويرها. 

5- ارتفاع كلفة اليد العاملة 


كثيرًا ما يطرح صعوبة تطوير قطاع التصنيع في المملكة نظرًا لارتفاع كلفة اليد العاملة السعودية، إلا أن النقاش كثيرًا ما يتجاهل أن كلفة اليد العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا أعلى بكثير من كلفة اليد العاملة في السعودية، ومع ذلك الارتفاع فإن الإنتاج الصناعي لتلك الدول الثلاث يمثل 25% من الناتج الصناعي عالميًّا ويوظف عشرات الملايين من الموظفين. لذا أعتقد أن النقاش ينبغي أن يتحول نحو الإجابة على ما الذي ينبغي علينا فعله لخلق وظائف صناعية ذات دخل مقبول. تزداد أهمية كلفة الأيدي العاملة في الصناعات التي تتطلب أيدي عاملة بكثافة، كصناعات المنسوجات أو الأحذية، فكلفة الأيدي العاملة هي الجزء الرئيس من إجمالي التكاليف لكل منتج، نظرًا لأن المنتج يعتمد على العمل اليدوي وانخفاض قيمة تلك المنتجات وارتفاع كلفة أتمتتها. وفي المقابل تنخفض نسبة كلفة اليد العاملة في الصناعات الأكثر تطورًا فكلفة الأيدي العاملة في صناعة السيارات أو الطائرات أقل تأثيرًا. لذلك أعتقد أن من المهم التركيز على صناعات تستخدم التقنية لخلق وظائف مناسبة، وتقديم التدريب للطالب والموظف السعودي لصقل مهاراته.

6- دعم الصناعة 


 ذكرت سابقًا أن الدعم الحكومي الحالي يعتمد على أدوات محددة لمدة طويلة من السنوات، وعتقد أننا بحاجة لمراجعتها وتقييمها من حيث التكلفة والفائدة. يمكن تلخيص البيئة المناسبة لإنشاء المصانع من زاوية المستثمرين في: الاستقرار السياسي والاقتصادي والقضائي، جودة البنية التحتية، ومنافذ للتمويل، وتوفر الأيدي العاملة الماهرة بكلفة مناسبة، وتوفر المواد الخام بتكلفة ملائمة ومستقرة، وسوق كبير نسبيًّا ليوفر طلب مناسب ومستقر للبدء بالنشاط. ومن الزاوية الأخرى يمكننا النظر إلى احتياج المصانع للدعم حسب مراحل نموها، فهناك مرحلة الاستكشاف ومرحلة النمو والتصدير، ومرحلة المنافسة عالميًّا، ومن الواضح أن احتياجات كل مرحلة تختلف عن الأخرى. ففي مرحلة الاستكشاف المغامرة كبيرة، نظرًا لقلة عدد الأيدي العاملة الماهرة، وضعف المعرفة بعملية الإنتاج، إضافة إلى شبكات الإمداد الضعيفة. بينما في مرحلة النمو والتصدير قد تكون المصانع بحاجة أكثر إلى التدريب والاستشارات الفنية والإدارية وأيضًا فتح الأسواق الخارجية. لذلك يجب تصميم برامج دعم فاعلة تراعي مراحل النمو. 

7- الدعم الصناعي بين المستكشف والمحاكي 


حين يفتتح أول مصنع لمنتج معين فإن المبادر أو المستثمر (المستكشف) غامر بوقته وأمواله لاستكشاف هل تنجح هذه الصناعة في المملكة أم لا، وحين ينجح في تصنيع المنتج سيليه عدد من المستثمرين يأملون في تحقيق الأرباح عبر محاكاته في تصنيع ذلك المنتج (المحاكون) . لذلك من الضروري في دعم الصناعة التفريق بين المستكشفين والمحاكين. ففي حين أن القيمة المضافة لأول مصنع كبيرة جدًّا أمّا لمن يليه فتقل القيمة المضافة إلى الاضمحلال. لذلك يجب تركيز الدعم للمستكشفين وتخفيفه لمن يليه من المحاكين. 

8- دعم الصناعة ومنظمة التجارة العالمية 


هناك تخوف كبير لدى المهتمين بالصناعة المحلية من الحديث عن دعم الصناعة في المملكة خوفًا من الدخول في إشكالات قانونية مع منظمة التجارة العالمية، وعتقد أن هذا التخوف مصدره الجهل بأنّ المنظمة تسمح بأنواع من الدعم كالدعم لجميع الصناعات - الممنوع تحديد صناعات معينة تستفيد من الدعم- كما تسمح بالدعم للمناطق الأقل نموًّا، وأيضًا تسمح المنظمة بالدعم في ظروف محددة، والمطلوب هنا بناء فريق قانوني يتيح لمسؤولي السياسات الصناعية معرفة جميع الاستثناءات الممكنة لدعم الصناعة وذلك لبناء سياسات لتحفز الصناعة وبنفس الوقت لا تخالف قوانين المنظمة. 

أهداف للسياسات الصناعية السعودية


1. تطوير الإطار القانوني والسياسات المؤثرة على الصناعة


 1.1. بناء منظومة لقياس الدعم وتقييمه وإعادة توجيهه 


نظرًا لأنّ الموارد المالية والبشرية محدودة بطبيعتها، فيجب الموازنة بين الإنفاق والعائد على كل برنامج في السياسات الصناعية، فمثلًا يجب تقدير قيمة اللقيم المخفض للصناعات البتروكيماوية ومقارنته بالأهداف المرجوة، وتقييم الفرص البديلة، فمن المحتمل أن يكون من الأجدى استثماره في صناعة الالكترونيات أو الصناعات الكهربائية مثلًا. 

1.2. بناء فريق متخصص في صناعة سياسات الصناعة

تطوير السياسات عمل مستمر بطبيعته، يستلزم تطوير نماذج وتطبيقها وقياس أثرها ومن ثم تقييمها وتعديلها بناء على النتائج، وهذا عمل بطبيعته يتطلب التخصص، فلا يمكن الاستعانة بشركة أو بمستشار أجنبي لتقديم هذه النوعية من الأعمال. أعتقد أن من الضروري تكوين فريق عمل سعودي يدرس التجارب الدولية في تطوير السياسات الصناعية ويستخلص التجارب المستفادة ويطور سياساتنا الصناعية، ومن الممكن أن يكون في البداية بإشراف أجنبي.


1.3. الصناعة والتستر

حين تزور الورش والمصانع الصغيرة تلاحظ ندرة وجود السعوديين مما يؤيد الانطباع بانتشار التستر في قطاع الصناعة، ونظريًّا انتشار التستر يفسر عدم تطور المصانع ، نظرًا لأنّ المتستر عليه الأجنبي هو من يستثمر في المعدات والآلات، ونظرًا لوضعه القانوني غير الرسمي يتحاشى الاستثمار بمبالغ كبيرة لشراء تقنيات عالية لزيادة إنتاجه، فحين يزداد الطلب على منتجاته، سيحرص على إضافة أجانب آخرين بدل من شراء معدات بمئات الآلاف أو الملايين، فمن مصلحته تقليل الأصول وتحويل معظم الأرباح للخارج نظرًا لوضعه المخالف قانونيًّا، ويمكن حل هذا الإشكال بتصحيح وضع المنشآت التي تمارس التستر بتحويلها إلى شركات استثمار أجنبي وهو الحل السريع والخطر، نظرًا لعدم وجود قيمة مضافة يتم تقديمها إذا استثنينا الخبرة السابقة وعلاقاته مع الموردين والعملاء، والحل الآخر وهو الأصعب تجفيف بيئة التستر عبر إسقاط حقوق المتستر قانونيًّا و منع استمرار غير السعودي في المملكة لمدد طويلة. 

1.4. الورش كداعم للصناعة

 توفر الورش والمصانع الصغيرة تدريبًأ أوليًّا للأيدي العاملة وللمبادرين لذا فهي ركيزة للصناعة السعودية وأعتقد أن من غير المنطقي ربط الإشراف عليها بالبلديات فهي جزء أساسي في قطاع الصناعة. 


2. تطوير القدرات البشرية


2.1. سعودة خطوط الإنتاج والمبادر الصناعي السعودي

لدراسة تطور الصناعة يجب فهم كيف نصنع المبادرين الصناعيين وأعتقد أن هناك لبس في تعريف المبادر بشكل عام والمبادر الصناعي بشكل خاص، فحين يستثمر السعودي في بناء مصنع وشراء التقنيات ويستقدم المهندسين والعمالة من الخارج، فدوره هنا مستثمر وليس مبادر، فمن يملك المعرفة بالتصنيع وتحسين الإنتاج هو المهندس والفني على أرض المصنع-سعوديًّا كان أم أجنبيًّا-، وليس المالك؛ لذا فالمستثمر الصناعي خارج نقاش هذه الفقرة.
تنبع أهمية المبادر الصناعي من احتكاكه واستيعابه للصناعة وللسوق المحلي، فلديه المعرفة والقدرة على تطوير منتجات جديدة محليًّا ، أو تقديم قيمة مضافة للسوق المحلي تدفع المنتجين المحليين المتنافسين لتطوير صناعاتهم. لذلك علينا معرفة كيف ننمي أعداد المبادرين الصناعيين. حين يتوظف الفني أو المهندس في أحد المصانع، ويكتسب خبرة عميقة بطرق الإنتاج وحاجات السوق سيكتشف حاجات لم تلبى، أو فرص يمكن انتهازها سواء كانت منتجات أو طرق تصنيع جديدة لم ينفذها المصنع الحالي فيطور نموذجًا أوليًّا بناء على خبرته وبناء على علاقته خلال عمله، ثم يحاول تسويق المنتج لدى العملاء وفي حال نجاح النموذج الأولي يتواصل مع المستثمرين والبنوك والموردين لبناء المصنع، ويوظف مجموعة من المهندسين والإداريين ذوي خبرات مختلفة ويتشارك معهم دروس التجربة، ومن ثم ينتج ويسوق منتجاته في السوق.
 نلاحظ هنا أن المبادر اكتسب خبرة وشبكة علاقات استغلها لتطوير مصنع جديد يقدم إضافة للاقتصاد، وبطبيعة الحال لن يتحول كل مهندس أو فني يعمل في مصنع إلى مبادر، لكن هذه هي البيئة الطبيعية لتواجدهم؛ لذا اعتقد أن أيِّة محاولة لتطوير الصناعة دون رفع السعودة في خطوط الإنتاج هي استنزاف لمقدرات الوطن واستمرار للنزيف السابق. تتمحور السياسات الحالية في توطين الوظائف حول نسبة السعوديين في المنشأة، والنتيجة لمثل هذه السياسة هي أن أولوية المنشآت تكون نحو توطين الوظائف الإدارية، وهذه النتيجة تحرم السعوديين من الخبرة الفنية، وبالتالي لا تظهر أمامهم فرص تطوير الأعمال ولا يملكون الخبرة الكافية للمبادرة، والسياسة المقترحة تكون بتحفيز توطين الوظائف الهندسية والمهنية في الصناعة عبر تخفيف دعم رواتب السعوديين في الوظائف الإدارية، وزيادة الدعم المقدم للموظفين في الوظائف الفنية.



2.2. التركيز على تطوير عدد المهندسين والمهنيين

عند الحديث على تكلفة العمالة كمكوِّن من تكلفة التصنيع ينبغي الأخذ بعين الاعتبار بأن ارتفاع كلفة اليد العاملة في الدول المتقدمة يقابلها مهارة عالية من الموظف، نتيجة التعليم والتدريب المكثف، لذلك حتى يتمكن الموظف السعودي من المنافسة عالميًّا يجب تقديم وتطوير التدريب التأهيلي وأيضًا التدريب المستمر، عن طريق إدخال ملاك ومدراء المصانع في التخطيط والإشراف على التدريب، ليكون الطلاب مؤهلين بالمهارات المناسبة.



2.3. بناء روابط للمتخصصين

توفر الروابط المهنية بيئة فعالة في نقل المعرفة بين المتخصصين، فتكون هذه الروابط والجمعيات أداة لتوفير الشهادات المهنية وتقديم التدريب وإرساء المنافسة بين المهنيين، كما يمكن أن تكون هذه الجمعيات أداةً للتأكد من وصول الدعم الموجه إلى الأيدي العاملة السعودية.

3. بناء القدرات للمؤسسات

تتميز الصناعة بداينمكيتها، فالتحديث والتطوير جزء أساسي من طبيعتها، وعتقد أن من الملاحظ على المصانع السعودية وخاصة الصغيرة والمتوسطة ضعف مواكبتها للتطور سواء تقنيًّا أو إداريًّا، وكذلك حاجتنا لتطوير برامج تحفز المصانع على التحديث المستمر وتطوير قدراتها، ويمكن تلخيص أهم المبادرات التي أؤمن بأهميتها في التالي:



3.1. تطوير خدمات الإرشاد للمصانع

أعتقد أنه بإمكان خدمات الإرشاد تطوير الصناعة السعودية وخاصة المصانع الصغيرة والمتوسطة دون الحاجة إلى إنفاق أموال طائلة، حيث يمكن تقديم خدمة إرشاد تقدم من فرق متخصصة في ذات الصناعة (فريق متخصص في مصانع البلاستك مثلًا) عبر تحليل واقع المصنع من الناحية الإدارية والتقنية والتسويقية والمالية ومن ثم تطوير خطط تنفيذية بمشاركة الإدارة والملاك، ومتابعة تنفيذها، وبناء على الإنجاز يتم تقييم الإدارة ومقارنتها مع المنافسين، ويكون حسن الأداء معيارًا في حصول المصنع على تمويل أو ضمانات للتمويل.
 كما يمكن أن تكون فرق الإرشاد حلقة وصل بين المصانع وتطورات الأسواق العالمية والتقنيات الحديثة، وأيضًا حلقة وصل بين المصانع والمستوردين المحليين والإقليميين، ليكون المديرون والملاك على إطلاع أكبر بالسوق. كما ستكون مثل هذه الفرق وسيلة لنشر أفضل الممارسات المحلية والدولية بين المصانع يمكن البدء في بناء مثل هذه الفرق بدء من الخبرات المتوفرة لدى صندوق التنمية الصناعي، ومشاركة استشاريين لدى الدول المتقدمة في تلك الصناعات، إضافة إلى أكاديمين ومدربين سعوديين لتحديد المعوقات التي تحول دون نمو المصانع المنتجة.



3.2. تقوية العلاقات بين المصنعيين

تقوية الروابط بين المصنعين أداة مهمة لمساعدتهم على توفير المواد الخام بأسعار منافسة وتطوير البرامج التدريبية والأبحاث المشتركة والمشاركة الجماعية في التصدير ويمكن تشجيع إنشاء جمعيات لكل صناعة متخصصة وتفعيلها بمشاركة لجان الإرشاد. فيمكن دعم مثل هذه الجمعيات باستضافة التدريب وتدريب المدربين، أوبتوفير مستودعات للموردين الخارجيين لما في ذلك من تقليل لرأس المال العامل.



3.3. تقديم برامج لتحفيز المصانع على تطبيق برامج الجودة

 تعد برامج الجودة من أفضل الوسائل لتطوير القدرات الداخلية للمصانع، حيث تمكن من قياس وتصحيح الإنتاجية، ويعد تطبيق المصانع لتلك البرامج مقياسًا مهمًّا لتطورها، ويمكن تحفيز المصانع على تطبيق برامج الجودة عبر توفير الدعم للبرامج التدريبية ودعم التأهيل والحصول على شهادات الجودة.


3.4. خدمات التدريب للمديرين والملاك

يعد تطوير قدرات المديرين أداة رئيسية لتطوير المنشآت وبالذات في قطاع الصناعة، فيجب توفير التدريب المستمر لهم لتطوير مهاراتهم في رفع الإنتاجية وحسن الإدارة المالية والتشغيلية، ويمكن تطوير دورات تدريبية مخصصة لمدراء وملاك المصانع تقدم عبر القطاع الخاص.


3.5. تشجيع الحصول على شهادات المواصفات والمقاييس الدولية

ييسر الحصول على شهادات المواصفات والمقاييس الدولية (الشهادات الأوربية مثلًا) التصدير لتلك الأسواق، ,وعادة ما تتطلب التسجيل والاختبار والاعتماد ويمكن تخفيض كلفتها على المصانع إما بالدعم المباشر او إعداد شركات محلية للتأهيل لدى جهات مراقبة الجودة الخارجية.

3.6. تطوير برنامج للمنافسة بين المصانع في الجودة والإنتاجية والتنافسية


تحفز المقارنة على التغيير، فحين تتوفر المعلومات حول أداء المنافسين سيكون لدى الإدارة الرغبة في تحسين الأداء، لذلك اعتقد أنّ من المهم توفير أرقام للمقارنة بين المصانع في ذات الصناعة مثل إنتاجية الموظف الواحد، ونسب الهدر، وأرقام التصدير، وتكريم المتميزين وأيضًا نشر أفضل الممارسات سيوفر بيئة ملهمة للتطور.


3.7. برنامج لدعم شراء التقنيات الجديدة

لا يمكن الحديث عن تطوير قدرات المصانع دون الحديث عن تطوير التقنيات، فهي أداة رئيسة - إضافة إلى الأيدي العاملة الماهرة وحسن الإدارة - لرفع إنتاجية المصانع. ويمكن تقديم برنامج لتشجيع تحديث التقنيات والمعدات عبر توفير التمويل التأجيري للمعدات، أوالدعم المالي المباشر لما في ذلك من تحسين في الإنتاجية والجودة.



3.8. برنامج استكشاف الصناعات القابلة للنجاح

 يوجد العديد من الممارسات العالمية لاستكشاف الصناعات المحتمل نجاحها، فمثلًا يمكن اختيار دول يتجاوز الدخل القومي للفرد فيها مقدار الخمسين بالمئة، واستطلاع الصناعات الناجحة فيها، أيضًا يمكن مراجعة صناعات الدول المشابهة لنا من ناحية البنية التحتية ورأس المال البشري والمادي. لكن أعتقد أنّه من الأفضل اختيار نموذج "أطلس التشابك الاقتصادي The Atlas of Economic Complexity " والذي يحلّل صادرات دولة ما ويضع تقديرًا لقدراتها التصنيعية والتصديرية المتوقعة بناءً على الصادرات الحالية. وتؤخذ دول أعلى من السعودية في الترتيب وتتشابه معها في هيكلة الاقتصاد للاطلاع على صادراتها، ونبحث عن الشركات المحلية التي تنتج منتجات مشابهة، ونحلل العوائق التي تمنع هذه الشركات من تحقيق نمو كبير في الصادرات، وتحفيز المصانع لإنتاجها عبر تقليل كلفة التجارب. ولو أخذنا دولًا مثل تركيا وماليزيا وجنوب أفريقيا على سبيل المثال لا الحصر، سنجد أنَّ المضخات ومعدات الحفر وقطع غيار السيارات والأجهزة المنزلية ومعدات الطرد المركزي، تمثل جزءًا أساسيًّا من صادراتها، وبالمقابل سنجد مجموعةً من المصانع السعودية التي تنتج منتجات مماثلة، وأخرى تنتج منتجات مقاربة، يمكن الاعتماد عليها كنقطة انطلاق.

4. التسويق


4.1. ضعف معلومات الطلب


 تركز السياسات التجارية في المملكة على تسهيل عملية الاستيراد انطلاقًا من مبدأ تعزيز المنافسة التجارية، إلّا أنّني اعتقد بأن النتيجة الجانبية لمثل هذه السياسة هي تشتت وتفتت عمليات الاستيراد للمنتج الواحد، لذلك فإن المصنع السعودي سيجد صعوبة في التعرف على الطلب للمنتجات التي يمكنه توفيرها نتيجة لذلك التفتت، فضلًا عن صعوبة البيع بعد الإنتاج لعدد كبير من المستهلكين، بينما لو كان الاستيراد محصورًا في عدد أقل من المستوردين سيمكن معرفة المستوردات وسيسهل البيع من المصنع لبائعي الجملة.


4.2. تطوير معلومات الأسواق المحلية والإقليميّة

استخدمت مبادرة وزارة الدفاع لتوطين المشتريات العسكرية دليل الناتو لتصنيف المشتريات، وتمت مشاركته مع عدة جهات حكومية وخاصة؛ لتحديد المشتريات الخارجية وقياس حجم الطلب عليها، وعتقد أنّنا أمام حالة نجاح تستحق الاحتفاء والتطوير، فيمكن الطلب من المستوردين - كشرط للفسح الجمركي- إضافة المواد المستوردة إلى قاعدة بيانات مبنية على أساس مشابه لدليل الناتو، تدريجيًّا ابتداءً بكبار المستوردين. وفي حال تم تحقيق مثل هذا الإنجاز سيكون من اليسير تقدير الطلب بشكل دقيق لزيادة المحتوى المحلي وكخطوة أولى اعتقد أنّه بالإمكان بناء قاعدة بيانات بأسماء المستوردين مصنفة طبقًا للمستوردات حسب التصنيف المعتمد لدى الجمارك، وتوفيره للمصنعين. كما يمكن تفعيل دور القنصليات التجارية بمساعدة المصدرين السعوديين على تصنيف كبار المستوردين في الدول المجاورة للمساهمة في اختراق تلك الأسواق.


4.3. قواعد بيانات مطورة للشركات المحلية طبقًا للخدمات والمنتجات المقدمة

تحتاج المصانع للعديد من الموردين الداعمين لعملها ابتداءً من شركات الإمداد بمواد الخام مرورًا بشركات للتصميم والتسويق وانتهاءً بشركات الشحن، ولتشجيع المنافسة بين تلك الشركات يجب توفير دليل للشركات مقدمة الخدمات. وعتقد أنّه بالإمكان البدء في تنفيذ مثل هذه القاعدة اعتمادًا على قواعد بيانات وزارة التجارة وشركة ثقة، بحيث يتاح التصنيف الذاتي لكل شركة مع الإشارة لبعض العملاء.



4.4. تقديم دعم لربط الشركات المحلية بشركات الاستثمار الأجنبي

 ذكرنا سابقًا أن وجود شركات متقدمة عملاقة في المملكة سيصنع جزرًا مستقلة بعيدة عن الشركات المحلية ذات التقنية والإدراة البسيطة، ,وأعتقد أن ربط الشركات المحلية بتلك المصانع عبر دعم التدريب والتأهيل للمصانع ذات القدرة على النمو، يساعدها على مواكبة الطلب الجديد.



4.5. التصدير

حسب رؤية 2030 تستهدف المملكة رفع قيمة الصادرات زيادة نسبة الصادرات السعودية من 16% إلى 50% من إجمالي الناتج المحلي للقطاع غير النفطي؛ أي أنها تستهدف رفع الصادرات أكثر من 3 أضعاف، وعتقد أن ذلك يتطلب تحديث آليات دعم التصدير، بحيث يمكن أن تتضمن تصنيف الدعم طبقًا لقيمة الصادرات، فالمصنعون ذوو الصادرات الأكثر من مليار دولار بحاجة لخدمات مختلفة عن المصدرين الجدد. وقياس إنجاز هيئة تنمية الصادرات السعودية بعدد المصدرين لكل فئة.

5. التمويل

تحدث المسؤلون السعوديون والمستثمرون كثيرًا حول أهمية التمويل للصناعة وأيضًا أهمية التمويل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وعتقد أنّ مشكلة ضعف التمويل للمنشآت الصغيرة والمتوسطة أوضح حالًا في قطاع التصنيع، حيث إنّ الحاجة للتمويل في هذا القطاع ضرورية لنموه، فارتفاع قيمة الأصول هو سمة أساسية لقطاع التصنيع ويستلزم تمويلها بالقروض. ويدور الدعم المقدم من الحكومة في هذا المجال حول قروض صندوق التنمية الصناعي وبرنامج كفالة لتمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، إلّا أنّ منظومة التمويل من زاوية الصناعة تعاني القصور من ناحيتين أساسيتين:

  • ترتكز البنوك الشاملة في قرارات منح التمويل على الضمانات واالقوائم المالية، لكن ولطبيعة المنشآت الصغيرة والمتوسطة تكون الضمانات والقوائم المالية ضعيفة، وعادة ما يكون هذا دور البنوك الصغيرة (رأس مال بحدود 100-500 مليون ريال) حيث تميل هذه البنوك إلى إقراض قطاعات معينة (كإقراض مصانع البلاستك أو مصانع النسيج)، أو إقراض مناطق معينة (منطقة جازان مثلًا) فيتوفر لدى البنك معلومات مهمة للإقراض لا تتوفر بطبيعتها في القوائم المالية، مثل خبرة الإدارة، ومعلومات الموردين والمصنعين والمستهلكين، مما يمكنها من اتخاذ قرارات إقراض بشروط مختلفة عن البنوك الكبيرة، لما لديها من القدرة على تقييم نجاح المشروع وقدرة المشروع على سداد القرض، مما يؤدي إلى قرارات إقراض أفضل، تمنح المقترض فرصة لتطوير أعماله. 
  •  ضعف الحوافز لللمستثمرين الممولين/المستثمرين الملاك (Angel Investors) على الاستثمار في الصناعات الصغيرة والمتوسطة، ويمكن معالجتها عبر احتساب جزء من هذه الاستثمارات كمدفوعات ضريبية أو رسوم حكومية خاصّةً إذا كان المستثمر من كبار تجار الجملة أو التجزئة ولديه معرفة تامّة بهذا السوق.


الخاتمة


وختامًا إن تطوير الصناعة السعودية هو الطريق الرئيس لخروج السعودية من معضلة الاعتماد على النفط، كما أنّ الصناعة توفر حلولًا للإشكالات الأساسية التي تواجه السعودية خاصة البطالة وميزان المدفوعات.
أن تطوير الصناعة يستلزم بناء إجماع وطني على أولوية تطوير الصناعة كمشروع وطني، لتكون الصناعة هي الشغل الشاغل للقطاعين العام والخاص. يلي ذلك تطوير سياسات تشجيع التصنيع، تحلل الوضع الراهن وإشكاليته، وتحدد الأهداف الإستراتيجية وتطور مبادرات تنفيذية لها. كما اعتقد أنَّ السياسات الصناعية يجب أن تعالج الإطار القانوني للصناعة وتطوير القدرات البشرية وقدرات المؤسسات والمصانع، وتسهم في دعم التسويق لمنتجاتها، وتدعم المحاكاة والابتكار وتيسر التمويل.
إنَّ الصناعة بطبيعتها عملية مستمرة من التحسين والتطوير والاختراقات التقنية، مما يستلزم أن تكون السياسات الصناعية سبّاقة في اكتشاف الإشكالات وتقديم حلول خلّاقة لمواكبة التطور والنمو، لتكون الصناعة السعودية في مقدمة الركب كما يجب أن تكون.

هناك 3 تعليقات:

  1. الصناعة هي أهم شيئ في أي دولة وخاصة عبر الإلتزام بـ مواصفات قياسية ومنافسة.

    ردحذف
  2. شكرا على هذه التدوينة الرائعة

    ردحذف
  3. احد التدوينات المتميزه والتي تطلعنا على مانحن عليه وماذا من المفترض ان نتجه له
    تعليقي من نقطتين:
    النقطه الاولي ; هو مراجعه الثوره الزراعيه بالمملكه والتي بدأت بعام 1400 واخذت بالنمو والتطور من جميع النواحي الى عام 1432 تقريبا اخذت ترند الهبوط باسباب جوهريه للزراعه منها ندره الماء وتقليل الدعم الحكومي لهذا القطاع كالدعم المالي و الاداري والارشادي وايضا
    البحث بهذا الموضوع ومراجعه الاجرائات الصحيحه والخاطئه بهذه الثوره سيكشف الكثير من النقاط المشوشه لدى الوزاره ومعرفه اين نحن في قطاع الصناعه واين من المفترض ان نكون والخطوات التي توجهنا لتلك النقطه

    النقطه الثانيه : هي الاجرائات الاداريه للمصانع قبل الانشاء وبعد الانشاء ويأتي من ضمنها ايضا شهادات الاعتماد للاسواق العالميه المختلفه فمن المفترض ان اول خطوه نبدأها ان تكون هناك وزاره مختصه بشكل كامل عن المصانع من جميع النواحي ولتسمى وزاره الصناعه
    ولابد من جمع الاجرائات الابتدائيه للمصانع بهذه الوزاره فقط مثل شهاده الدفاع المدني والبلديات وغيرها من التراخيص فلابد من تسهل هذه الامور وتكون من اختصاص وزاره الصناعه فقط واظن انه قد بدؤا بتطبيق هذه الاجرائات باحد برامج من قبل وزاره التجاره لكن ايضا الصناعه تحتاج اكثر واكثر
    فلابد من تكون وزاره الصناعه ذات اذرع قويه باداراتها المحليه والعالميه لتجذب المستثمر والمبادر لهذا القطاع




    اكرر شكري لك اخوي خالد على هالتدوينه

    ردحذف